ملخص المقال
عبد الرحمن الناصر من أعظم أمراء المسلمين، ومن أطولهم حكمًا، حكم نصف قرن من سنة 300 إلى سنة 350 هجرية، بلغت معه الأندلس قمة المجد إسلامًا وحضارة...
الخليفة عبد الرحمن الناصر من أعظم أمراء المسلمين، ومن أطولهم حكمًا، حكم نصف قرن من سنة 300 إلى سنة 350 هجرية، بلغت معه الأندلس قمة المجد؛ إسلامًا، وحضارة، وقوة، وجهادًا، وهو أول من تلقَّب بالخليفة في الأندلس.
قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، وهو مؤسِّس مدينة الزهراء، وكانت أجمل مدينة في العالم في ذلك الوقت.
ورغم كل هذه العظمة وكل هذا المجد لم يتردد هذا الملك الممكَّن في قبول النصيحة من منذر بن سعيد الإمام المحدث الفقيه العالم العامل القاضي العادل الذي قال عنه ابن بشكوال: لم يكن بالأندلس أخطب منه، مع العلم البارع، والمعرفة الكاملة، واليقين في العلوم، والدين، والورع، وكثرة الصيام، والتهجد، والصدع بالحق، كان لا تأخذه في الله لومة لائم.
ومن أشهر البلغاء في التاريخ الإسلامي، وبلاغته كانت سببًا في معرفة عبد الرحمن الناصر له، قال النباهي المالقي: «فَأول الْأَسْبَاب فِي مَعْرفَته بالناصر الْخَلِيفَة، أَن النَّاصِر لدين الله، لما احتفل فِي الْجُلُوس لدُخُول رَسُول ملك الرُّوم الْأَعْظَم، صَاحب الْقُسْطَنْطِينِيَّة عَلَيْهِ، بقصر قرطبة، أحب أَن يُقيم الخطباء وَالشعرَاء بَين يَدَيْهِ، وَتقدم إِلَى الْأَمِير الحكم ابْنه بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء فَأمر الحكمُ الْفَقِيهَ مُحَمَّد بن عبد الْبر بالتأهب لذَلِك، فَلَمَّا قَامَ يحاول التَّكَلُّم بِمَا رَوَاهُ، بهره هول الْمقَام فَلم يهتد إِلَى لَفظه، بل غشي عَلَيْهِ، فَقيل لأبي عَليّ الْبَغْدَادِيّ إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم، أمير الْكَلَام: قُم {فارقع هَذَا الوهى} فَقَامَ؛ فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله وَصلى على نبيِّه مُحَمَّد ﷺ {ثمَّ انْقَطع بِهِ القَوْل؛ فَوقف ساكتاً مفكراً فِي كَلَام يدْخل بِهِ إِلَى ذكر مَا أُرِيد مِنْهُ.
فَلَمَّا رأى ذَلِك مُنْذر بن سعيد -وَكَانَ مِمَّن حضر فِي زمرة الْفُقَهَاء- قَامَ من ذَاته؛ فوصل افْتِتَاح أبي عَليّ لأوَّل خطبَته بِكَلَامٍ عَجِيب، يسحُّه سَحًّا، كَأَنَّمَا يحفظه قبل ذَلِك بِمدَّة، وَبَدَأَ من الْمَكَان الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أَبُو عَليّ الْبَغْدَادِيّ. فخطب خطبة طويلة بليغة ...". فَخرج النَّاس يتحدَّثون عَن مقَام مُنْذر، وثباته، وبلاغة مَنْطِقه. وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله أَشَّدهم تَعَجبًا مِنْهُ، فَأقبل على وَلَده الْأَمِير الحكم يسائله عَنهُ، فَقَالَ لَهُ الحكم: هُوَ مُنْذر بن سعيد البلوطي. فَقَالَ لَهُ: لقد أحسن مَا شَاءَ {فلئن كَانَ حبَّر خطبَته هَذِه وأعدَّها، مَخَافَة أَن يَدُور مَا دَار، فيتلافى الوهى، إِنَّه لبديعٌ من قدرته واحتياطه، وَلَئِن كَانَ أَتَى بهَا على البديهة لوقته، إِنَّه لأعجب وَأغْرب} فَكَانَ ذَلِك سَبَب اتِّصَاله بِهِ»!
بعدها ولَّى لمنذر بن سعيد القضاء بقرطبة عام 339 هجرية، وكان لمنذر بن سعيد كتب مشهورة كثيرة مؤلفة في القرآن، والفقه، والسُنَّة والورع والرد على أهل الأهواء والبدع. ومن مصنفاته المتداولة: "كتاب الناسخ والمنسوخ"، وكتاب "الإنباه عن الأحكام من كتاب الله"، وكتاب "الإبانة عن حقائق أصول الديانة"[1].
ومن أشد المواقف لمنذر بن سعيد مع عبد الرحمان الناصر أنَّه قال: وَكَانَ الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله كلفًا بعمارة الأَرْض وَإِقَامَة معالمها، وتخليد الْآثَار الدَّالَّة على قُوَّة الْملك وَعز السُّلْطَان؛ فأقضى بِهِ الإغراق فِي ذَلِك إِلَى أَن ابتنى مَدِينَة الزهراء، الْبناء الَّذِي شاع ذكره: استفرغ وَسعه فِي تنميقها، وإتقان قُصُورهَا، وزخرفة مصانعها. فانهمك فِي ذَلِك حَتَّى عطل شُهُود الْجُمُعَة بِالْمَسْجِدِ الْجَامِع الَّذِي اتَّخذهُ ثَلَاث جمع مُتَوَالِيَة؛
مبتدِئًا بقوله: أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون. وتتخذون مصانع لَعَلَّكُمْ تخلدون وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين فَاتَّقُوا الله وأطيعون وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تَعْمَلُونَ أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون. إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم
فمتاع الدُّنْيَا قَلِيل، وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى، وَهِي دَار الْقَرار، وَمَكَان الْجَزَاء!
وَمضى فِي ذمِّ تشييد الْبُنيان، والاستغراق فِي زخرفته، والإسراف فِي الْإِنْفَاق عَلَيْهِ؛
"أَفَمَن أسس بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بُنْيَانه على شفا جرف هار فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم" وأتى بِمَا يُشاكل الْمَعْنى من التخويف بِالْمَوْتِ، والتحذير من فَجَاءَتْهُ، وَالدُّعَاء إِلَى الزّهْد فِي هَذِه الدَّار الفانية، حَتَّى اذكر من حَضَره النَّاس وخشعوا، ورقوا، واعترفوا، وَبكوا، وضجوا، ودعوا، وأعلنوا فِي التضرع إِلَى الله فِي التَّوْبَة، والابتهال فِي الْمَغْفِرَة، وَأخذ خليفتهم من ذَلِك بأوفر حَظّ، وَقد علم أَنه الْمَقْصُود بِهِ؛ فَبكى، وَنَدم على مَا سلف لَهُ، واستعاذ بِاللَّه من سخطه،
إِلَّا أَنه وجد على مُنْذر بن سعيد لغلظ مَا تقرعه بِهِ؛ فَشَكا ذَلِك لوَلَده الْأَمِير الحكم بعد انْصِرَافه، وَقَالَ: وَالله لقد تعمدني مُنْذر بخطبته، وَمَا عَنى بهَا غَيْرِي، فأسرفَ عَليَّ وأفرط فِي تقريعي، وَلم يحسن السياسة فِي وعظي، فزعزع قلبِي، وَكَاد بعصاه يقرعني واستشاط غيظًا عَلَيْهِ؛ فأقسم أَن لَا يُصَلِّي خَلفه صَلَاة الْجُمُعَة خَاصَّة؛ فَجعل يلْتَزم صلَاتهَا وَرَاء أَحْمد بن مطرف صَاحب الصَّلَاة بقرطبة، ويجانب الصَّلَاة بالزهراء.
فَقَالَ لَهُ الحكم: فَمَا الَّذِي يمنعك من عزل مُنْذر عَن الصَّلَاة بك، والاستبدال مِنْهُ إِذْ كرهته؟ فزجره وانتهره، وَقَالَ لَهُ: أمثل مُنْذر بن سعيد فِي فَضله وَعَمله وخيره؟ لَا أم لَك} يعْزل لإرضاء نفسٍ ناكبة عَن الْحق، هَذَا مِمَّا لَا يكون، وَإِنِّي لأَسْتَحي من الله أَن لَا أجعَل بيني وَبَينه فِي صَلَاة الْجُمُعَة شَفِيعًا مثل مُنْذر فِي ورعه وَصدقه، وَلَكنَّه أحرجني، فأقسمت، ولوددتُ أَنِّي أجد سَبِيلًا إِلَى كَفَّارَة يَمِيني، بل يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَيَاته وحياتنا، إِن شَاءَ الله».
موقف آخر في هذا الشأن بين منذر بن سعيد وبين الناصر ذكره أيضًا المالقي النباهي:
اتَّخذ النَّاصِر لسقف قاعة بقصر الزهراء، قراميد مغشاة ذَهَبا وَفِضة، أنْفق عَلَيْهَا مَالا جسيماً، تشَتت الْأَبْصَار بأشعة أنوارها، وَجلسَ فِيهَا يَوْمًا -إثر تَمامهَا- فَقَالَ للوزراء مفتخراً بِمَا صنعه من ذَلِك: "هَل رَأَيْتُمْ أَو سَمِعْتُمْ ملكًا كَانَ قبلي فعل مثل فعلي هَذَا أَو قدر عَلَيْهِ؟"، فَقَالُوا: لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإنَّك لوَاحِدٌ فِي شَأْنك كُلِّه!
وبينما هُوَ كَذَلِك، إِذْ دخل عَلَيْهِ القَاضِي مُنْذر بن سعيد، واجماً ناكس الرَّأْس؛ فَلَمَّا أَخذ مَجْلِسه، قَالَ لَهُ كَالَّذي قَالَ لوزرائه من ذكر السّقف الْمَذْهَب، فَأَقْبَلت دموع القَاضِي تنحدر على لحيته، وَقَالَ لَهُ: "وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا ظَنَنْت أَن الشَّيْطَان لَعنه الله يبلغ مِنْك هَذَا الْمبلغ، وَلَا أَن تُمكِّنه من قبلك هَذَا التَّمْكِين، مَعَ مَا آتاك الله من فَضله وَنعمته، وفضلك بِهِ على الْعَالمين، حَتَّى ينزلك منَازِل الْكَافرين"، قَالَ: فانفعل عبد الرَّحْمَن لقَوْله، وَقَالَ لَهُ: انْظُر مَا تَقول وَكَيف أنزلتني مَنْزِلَتهمْ؟ فَقَالَ لَهُ: "نعم أَلَيْسَ الله تَعَالَى يَقُول: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، فَوَجَمَ الْخَلِيفَة، وأطرق مَلِيًّا، ودموعه تتساقط خشوعاً لله سُبْحَانَهُ، ثمَّ أقبل على مُنْذر وَقَالَ لَهُ: "جَزَاك الله، يَا قَاضِي عَنَّا وَعَن نَفسك خيرا وَعَن الدّين وَالْمُسْلِمين أجل جَزَائِهِ وَكثر فِي النَّاس أمثالك فَالَّذِي قلت هُوَ الْحق"، وَقَامَ عَن مَجْلِسه ذَلِك، وَأمر بِنَقْض سقف الْقبَّة، وَأعَاد قرمودها تُرَابًا على صفة غَيرهَا.
قبول النصيحة من شيم المؤمنين:
قول صالح: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]
· مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ». قُلْنَا: لِمَنْ. قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ».
· البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
· عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الذَّنْبِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: اتَّقِ اللهَ، فَيَقُولَ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، أَنْتَ تَأْمُرُنِي؟"
· وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيْنَا مَسَاوِئَنَا.
· وقال شيبان الراعي (من زهَّاد مرو) وهو ينصح الرشيد في الحجِّ: لأنْ تصحبَ أقوامًا يخوفونَك حتَّى تبلغَ المأمن خيرٌ لك من أن تصحبَ أقوامًا يؤمنونك حتَّى تبلغ المخاوف.
· العبرة: عليك بمداومة النصح للمسلمين، والأهمُّ أن تقبل النصح منهم، فإن رفض النصح علامة على التكبُّر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر![2].
([1]) ياقوت الحموي: معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، 6/ 2718. والذهبي: سير أعلام النبلاء، 16/ 174، 178.
[2] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عبد الرحمن الناصر وقبول النصيحة
التعليقات
إرسال تعليقك